Saturday, October 22, 2011

نهاية ملك ونهاية العالم ودرس في الصورة السينمائية

نهاية ملك ونهاية العالم ودرس في الصورة السينمائية

لقطة من الفيلم المغربي «النهاية» لهشام لعسري
شكّلت المسابقات الرسمية الثلاث في الدورة الخامسة لـ«مهرجان أبو ظبي السينمائي»، المنتهية مساء غد الجمعة، مساحة للتنافس بين عناوين أثارت نقاشات جادّة إثر عروضها الدولية الأولى. مساحة لمواجهة ثقافية وبصرية بين مخرجين حرّضوا، بأفلامهم الجديدة هذه، على المساءلة والسجال. أثاروا، بصُورهم البديعة، مُتعاً ونقاشات. بعض الأفلام فاز بجوائز أساسية في مهرجانات مُصنّفة «فئة أولى»، كبرلين مثلاً («انفصال نادر وسيمين» للإيراني أصغر فرهادي، الحائز على «الدبّ الذهبي» في شباط الفائت). بعض آخر رسّخ براعة مخرجه في استكمال مشروعه السينمائي، درامياً وجمالياً وفكرياً («إيلينا» للروسي أندري زفاغينتسييف، «حصان أسود» للأميركي تود سولوندز، «دجاج بالبرقوق» للإيرانية مرجان ساترابي والفرنسي فانسان بارانو).
هذه ميزة المهرجانات الدولية. أكاد أقول هذه لعبتها: الحصول على حقّ إشراك أفلام ذات طابع سجالي ومثير للنقاش. ذات نَفَس مفتوح على ثنائية النصّ والمعالجة في مقاربتها أشياء الحياة والدنيا، وهواجس الناس. المسابقات الثلاث غنيّة بأفلام مهمّة. الأهمية هنا واضحة المعالم: الشكل. الكتابة. التحليل. التقنيات. التمثيل. المواضيع. الأهمية نفسها فاتحةٌ مجالاً واسعاً لمتعة العين والانفعال. لرغبة العقل في النقاش.
الاشتغال الأفعل
العرب حاضرون. لم تستطع مصر أن تُلقي بثقلها عبر مشاركة فيلمية، فوجدت في ندوات ولقاءات جانبية ولجان تحكيم ودعوات متفرّقة ما يُعوّض شيئاً من غيابها. وجدت في ثورتها والنتاجات البصرية الأولى ما يُفعّل غياب الحضور المعتاد. المغرب أفعل، وأقوى تأثيراً، وأبدع جمالياً. أحد الأفلام المغربية الجديدة، المثيرة للدهشة المرفقة بضرورة النقاش النقدي، حمل عنوان «النهاية» (مسابقة «آفاق جديدة»). ثاني فيلم روائي طويل لمخرجه الشاب هشام لعسري مغاير تماماً لمألوف مُكرَّر. المغرب معطاء. قادر على تغذية الوعي المعرفي السينمائيّ العربي، بفضل حراك مُساجِل ومتفلّت من تقاليد وروتين. هناك أفلام عادية أيضاً. هناك أفلام لم تبلغ مرتبة جيّدة. هذا واقع طبيعي. غير أن أفلاماً مغربية عدّة شكّلت حالة قابلة لأن تكون بداية مرحلة متناسقة والاشتغال المتحرّر من سطوة المطلوب، باستخدامها أدوات قادرة على ترجمة تأثّرات سينمائية غربية وآسيوية مثلاً لمخرجين شباب. «النهاية» مثلٌ بارز. بالأسود والأبيض، ذهب هشام لعسري إلى أعماق الخراب الذاتيّ، مُسيِّجاً الحبكة بالبهتان اللونيّ، والغليان الانفعالي. مُسيِّجاً الحبكة بكَمّ هائل من العنف المبطّن، المتدرّج شيئاً فشيئاً إلى عنف ظاهر ومُمَارَس بوحشية. الأسود والأبيض متكاملان في إضفاء مزيد من الوحشية. أو مزيد من البراعة في لعبة «الألوان» (الأطياف. الهواجس. التداعيات) العاكسة نفوراً داخلياً قاتلاً. المتاهات الموضوعة فيها شخصيات ممزّقة، كاريكاتورية أو بهلوانية أو واقعية، جزءٌ أساسيٌّ من الكتابة البصرية. التفلّت من حصار المكان والزمان جزءٌ آخر أيضاً. قاع المدينة، التي يُمكن أن تكون أي مدينة عربية أو غربية في أي زمن آخر، حيّز لانفجار الداخل الفرديّ. حيّز للبوح الذاتيّ في مقارعة الذات نفسها أولاً. «النهاية» إضافة نوعية. إضافة حيوية في آلية الصوغ السينمائي والمعالجة الدرامية. إضافة خارجة من رحم القدر والتبدّلات، إلى مناكفة الشكل في تفكيك بناه «اللونيّة»، بحثاً عن مفردات مشغولة بلغة متجدّدة. ثنائية الأسود والأبيض مفتاح لولوج العوالم المعطوبة والمفتّتة والمنكسرة والتائهة، الخاصّة بشخصيات متناقضة ومتداخلة ومتنافرة ومتكاملة.
هذا جزءٌ من لعبة السينما. تحديد صورة مختصرة عن قصّة «النهاية» مصطدم بانعدام القدرة على تحقيق هذا الأمر. هناك حالات. هناك شخصيات. هناك مسارات. هناك قصّة: ميخي عاملٌ وضيع. تائه وسط أزقّة مدينة، وسلطة رجل أمن، وسقف برج تابه لمصنع، ومشاعر ساحقة إزاء الفتاة ريتا، التي التقاها صدفة. هناك أربعة شباب، الذين بدوا الأغرب والأقدر على ربط الوصلات السينمائية بعضها بالبعض الآخر. ريتا، بدورها، حجر رئيس في البناء الدرامي: المرأة المثيرة لميخي، النقيضة للزوجة المعوّقة لرجل الأمن، القريبة من ميخي أيضاً. حالات صاخبة، تعالى الصوت الداخلي الصامت فيها على كل ما عداه. السينما ركيزة القصّة. الصُوَر والمتتاليات البصرية. التوليف (جوليان فور) المانح الفيلم اتّساع أفق المخيّلة في مخاطبة الواقع. في محاكاته. في استرداده من الذاكرة الفردية إلى الفعل الجماعي. هذا واضحٌ منذ اللحظة الافتتاحية للفيلم: كلمات «جينيريك» البداية مقلوبة. الكاميرا مقلوبة أيضاً. اللحظات متجانسة في جعل الحدّ الفاصل بين الكلمات والكلمات واهية. الغموض قاتل. عنف الذات الداخلية قاتل. الاصطدام بالحبّ وتداعياته، والانقلاب على سلطة الأمن... هذا كلّه قاتل أيضاً.
تداخل
التداخل بين التفاصيل والإشارات والتعليقات المبطّنة قاتلٌ بدوره: تداخل الصورة بالحبكة. تداخل اللحظة التاريخية (التقط الفيلم أحداثاً متفرّقة جرت في الأيام القليلة السابقة على رحيل الملك المغربي حسن الثاني في الثالث والعشرين من تموز 1999) بالتوهان المقيمة فيه شخصيات وأحاسيس. الاندماج مطلق بين براعة التصوير (ماكسيم ألكسندر) ونبض الحالات المتراكمة في صنع المشهد. التاريخيّ مبطّن. التأثيرات النفسية والأخلاقية والإنسانية منكشفةٌ أمام سطوة القلق المتولّد من رحيل الملك. أو بالأحرى من الخشية الساحقة من رحيل الملك: «خشينا (في الفترة تلك) من أن يُحوِّل انقلاب عسكري المغرب إلى جمهورية موز بلا موز». قال هشام لعسري. ألا يؤشّر هذا، من بين أمور أخرى، إلى التماهي المُطلق بين الضحية والجلاّد؟ «كنتُ طفلاً يومها. كنتُ صبياً منطوياً على نفسه في العام 1999». التداخل بين اللحظات لا يقف عند حدّ. في حوار منشور في الموقع الإلكتروني لـ«مهرجان أبوظبي السينمائي»، ردّ لعسري على سؤال التداخل الدرامي بين خطّين اثنين: رحيل الملك الحسن الثاني وهاجس نهاية العالم، بالقول (إثر موافقة ضمنية على هذا): «استغرقتُ وقتاً طويلاً لأُخرِج هذا الإحساس من داخلي. أعني ما شعرتُ به عندما رحل الملك حسن الثاني. ظلّ هذا ماثلٌ في ذهني فترة طويلة. لا أنسى وجودي في الشارع لحظة سقوط الملك. (يومها) «رأيتُ» شعور الخسارة في عيون الناس آنذاك». قال إن شعوراً كهذا ناتجٌ من الخوف أو الغضب. أصحاب الشعور هذا أنفسهم «تموّنوا» بالماء والخبز، كأن حرباً ستحلّ بالبلد.
تحليل نفسيٌّ مصوغ بلغة سينمائية؟ ربما. انشغالٌ بمصير أفراد وسط سقوط مدوّ لحاكم أشبه بيد الله على الأرض؟ ربما. لكنه العنف. السينما فاتحة أبواباً رائعة للعنف المبطّن في ذوات أناس وجدوا أنفسهم، فجأة، في لحظة تبدّل خطر. السينما أداة أولى لهشام لعسري. التأمّل جاء مترافقاً وإطلاق ورشة عمل الفيلم. السرد والعوالم. جاءت كلّها أثناء الاشتغال السينمائي في كتابة السيناريو. ثنائية الأسود والأبيض أفضل تعبير تأمّلي في نهاية العالم. في هاجس بشريّ من نهاية العالم. المشهد الأخير في «النهاية» كابوس أحمر ورمادي (من دون أن يظهر اللونان مباشرة)، ترجم الاندماج الأخير بين موت حاكم وتفجّر عنف.
الغليان المدفون في أعماق الفرد إحدى السمات الأساسية لـ«انفصال نادر وسيمين» (مسابقة الأفلام الروائية الطويلة) للإيراني أصغر فرهادي. المخرج حاضرٌ بقوّة في صنع السينما منذ أعوام عدّة. إعلانٌ أول عن براعة سينمائية لافتة للانتباه تبدّى بفضل فيلمه الأول «الرقص في الغبار» (2003). إعلانٌ ثان أقوى وأجمل تمّ بفضل «عن إيلي» (2009)، الفائز بجائزة «الدبّ الفضيّ» في فئة أفضل إخراج، في مهرجان برلين في دورة العام 2009. دقائق هامشية أقرب إلى تفاصيل روتينية، مادة جوهرية لبناء درامي عال ومتماسك ومتين وقاس. دقائق ملتقطة من هنا وهناك. مفتوحة على أسئلة المصائر البشرية والأقدار المحيقة بالناس. لن أجادل مفردات باتت مترهّلة غالباً لشدّة استخدامها الخاطئ أحياناً، كالقول إن فيلماً كهذا «جريء» و«صادم»، بالمعنى التقليدي لمفردتي الجرأة والصدمة. غير أن أسلوب فرهادي جريء وصادم فعلاً: ببساطته الشكلية. بسلاسته في سرد الحكاية. بهدوئه الظاهر في رسم الملامح الإنسانية العفوية لشخصيات وأحداث وحالات وفضاءات. بموارباته المحترفة في قول سياسي بعيداً عن السياسة. في مقاربة مفاهيم الإيمان والتمسّك بالدين من ناحية، والانسحاق أمام وساوس وماورائيات وأشباح من ناحية أخرى، من دون أن يمسّ بالدين والإيمان والمعتقدات الشعبية بشكل مباشر.
سحر
هناك ما يُسحر في مشاهدة نمط كهذا في مقاربة الأشياء. الارتكاز المكثّف على الحوارات ركنٌ جوهري في البناء الدرامي. لكنه عاجزٌ عن تغطية البراعة البصرية في التقاط المناخ الحاصل حول الحوارات وفيها ومعها. حول الشخصيات الناطقة بها أيضاً. حول العلاقات القائمة بين الناس. هناك ما يُسحر في الأسئلة الكثيرة، لكن المتناسقة في طرحها داخل السياق الحكائي، حول العائلة والنزاع الطبقي والتلطّي وراء الدين أو استخدامه في حجج واهية. حول العائلة. حول التضحية من أجل الذات، أو من أجل الآخر. حول الكذب وقول الحقيقة، وما ينتج عن كل واحد منهما. في «انفصال»، القصّة واضحة تماماً. كادت تكون «تحقيقاً وثائقياً» عن زوجة تريد الطلاق من زوجها لرفضه السفر معها وابنتها إلى الخارج. كادت تكون هكذا، لولا براعة اللغة السينمائية في نقل الهاجس الذاتيّ العميق إلى مبنى سينمائي جميل.
أمام كاميرا الثنائي فرهادي ـ ألكسندر، المتحوّلة إلى قاضٍ يُفترض به إصدار حكم في القضية (لا يظهر أبداً، مكتفياً يإسماع صوته)، انفجرت اللحظة المخفيّة: لا إمكانية لبقاء ابنتهما البالغة أحد عشر عاماً مع أمها. هذا مناف للقانون، المكتوب أو المتداول شعبياً. في الوقت نفسه، هذا افتتاح مسار تصاعديّ متأزّم وضاغط. التفاصيل الهامشية أساسية: والد الزوج مُصاب بمرض «ألزهايمر». انفصال الزوجين عن بعضهما البعض أدّى إلى فراغ في المنزل. هناك حاجة إلى خادمة للاعتناء بالأب العجوز. الخادمة مؤمنة: كيف لها أن تعمل في منزل لا امرأة فيه؟ كيف لها أن تُعين رجلاً على قضاء حاجاته، وإن كان عجوزاً؟ وإن كان مُصاباً بمرض؟ صدام أفكار وأنماط عيش. انفجارات بدت كأنها لن تنتهي، مع النهاية المعلّقة على الإجابة المفقودة على سؤال البداية: «هل قرّرتِ مع من تريدين الإقامة؟». سؤال الكاميرا/ القاضي للابنة ظلّ، بدوره، متوارياً خلف الباب المغلق. لا بأس. ليست مهمّةً معرفة الإجابة ربما. اللعبة في مكان آخر: في بيئة ومجتمع وطبقات ونزاعات وغضب. في قمع اجتماعي متدرّج. في أفق مسدود. في انعدام تفاهم. أم في هذا كلّه؟ أم أن هذا كلّه وهم؟
السرد السلس مصدر الانشغال بجمال الصورة وتقنيات تنفيذها السينمائي. الكلام الكثير داعمٌ أول وفعليّ للسلاسة هذه. حركة العيون والأجساد. الحوارات. النبرة. لحظات القلق والخوف والتوتّر. الاصطدام بين انفتاح عقليّ وإيمان منغلق على ذاته مردّه انصهار الأسئلة في التباسات وتعقيدات. السينما اختبار. غالب الظنّ أن أصغر فرهادي لم يكتفِ بإنجاز فيلم أسماه «انفصال نادر وسيمين». غالب الظنّ أنه، بإنجازه الفيلم هذا، قدّم درساً في صناعة الصورة السينمائية.