Sunday, September 04, 2011

حسن بنشايخة يكتب عن السينما الإيرانية

السينما الإيرانية والقدرة على تجسيد الروح الإنسانية
قراءة مقارنة بين 'لون لجنة' و 'العطر':
حسن بنشليخة
2011-09-04


صورت إيران أفلاما ذات نفحة فلسفية وروحية أخفق في تصويرها الغرب، ونتناول هنا بالتحليل والمقارنة فيلمين: الأول إيراني تحت عنوان 'لون الجنة'، والثاني من إنتاج أوروبي- أمريكي تحت عنوان 'العطر: قصة قاتل' وكلاهما يتناول الحاسة والحس لتحقيق رسالتهما.
'لون الجنة'
من معجزات السينما الإيرانية فيلم 'لون الجنة' (الترجمة الحقيقية 'صبغة الله' وهي اقرب لمضمون الفيلم) للمخرج مجيد مجيدي. هذا الفيلم يحفر في الذاكرة وفي أعماق الروح إلى الأبد ويتميز عن الأفلام الإيرانية الأخرى بكونه تطرق إلى موضوع بنكهة فلسفية تغوص في الجاذبية الحسية والروح البشرية. انه فيلم مليء بالمشاهد المذهلة اللافتة للنظر والتأملات، وعلو شأنه يكمن في قيمة التعبير في الصورة، ومدى ما تنطوي عليه من رموز ودلالات يرغب المخرج في بلورتها داخل اللقطة، كي تفرز إثارة تخيلية ذات أبعاد معينة داخل نسق الفيلم. ولكي يوصل لنا هذه الرسالة يستعمل المخرج حسّ صبي ضرير يحاكي جمال الطبيعة. ويحمل الفيلم عمقاً مدهشاً حيث يستخدم مجيدي ممثلين غير محترفين يؤدون أدوارا في غاية الحساسية، مما يعطي صبغة واقعية إنسانية أكثر للأحداث. ويختطفك هذا الطفل الصغير المكفوف من مكانك أثناء مشاهدة الفيلم وأدائه دوره ببراعة مذهلة وبكل عفوية وبراءة تصل إلى أغوار الروح. لكن كيف تمكن المخرج أن يجعل الطفل يرى جمال الطبيعة رغم عاهته؟
يحكي الفيلم قصة طفل ضرير في الثامنة من عمره وأحاسيسه وألفته لما حوله من الطبيعة ليكتشف حكمة الخالق وسر الوجود. هذا الطفل اسمه محمد (محسن رمضاني) وهو بالفعل مكفوف ويمثل لأول مرة. يدرس في مدرسة للمكفوفين في طهران وفي إجازة الصيف يرحل إلى بلدته الجبلية في شمال إيران. ويبدو سعيدا باجتماعه بأختيه هنيه (الهام شاريم) وبهيرة (فرهاناز) وكذلك جدته (ساعي قايزي) ووالده الأرمل هاشم (حسين محجوب) الذي يعتبر ابنه حملا ثقيلا على كاهله وغير مرغوب فيه ويبدو منشغلا بالكامل بالمرأة التي يسعى للزواج منها. لكن محمد يبدو سعيدا لوجوده في الطبيعة وبين أهله. وهنا يتحتم على المشاهد المتذوق ملاحظة أدق التفاصيل في حركات الكاميرا التي أبدع فيها مجيد مجيدي والهام الممثل الصغير محمد الذي أدى دورا خالدا وبطريقة عبقرية سلب بها عطف المتفرجين في العالم. ولا ينتهي الإبداع عند هذا الحد بل يتفتح كباقة زهور ونحن نشاهده وهو يلامس أطراف النبات والأعشاب ويستمع إلى حفيف الأوراق ونسيم الهواء وصوت الطيور وأمواج البحر. ويتوقف، بابتسامته الساحرة، على إيقاعات صوت طير نقار الخشب وهو ينقر في جذوع الأشجار، وكأنه يستمع لنغمات دقات قلبه، ليفهم ماذا يقول. فمحمد هو عالم الصوت والطبيعة هي صلبه. إنها رسالة فلسفية في أبهى صفات الإنسانية يتفوق مجيدي في نقلها لنا عن طريق مشاعر الطفل المكفوف ونعيش معه تلك اللحظة ونشعر بجمال الطبيعة وزهوها كأننا نكتشفها لأول مرة. حيث نشاهد بنظرة تأملية الطبيعة وأصواتها، وكيف أن الطفل الأعمى محمد كان قادراً على أن يقرأ هذه الطبيعة بروحه، ويستشعرها بكل حواسه الأخرى ويوقظ في نفس المشاهد أحاسيس الجمال التي لم يعد يشعر بها. وتكتمل الرسالة الإنسانية وتصل إلى قمتها عندما تهمس الجدة للأب وهي على موعد مع الموت: إني أخشى عليك، وكأنها تخاطب البشرية التي تعيش في الجنة ولا ترى جمال ألوانها الزاهية.
ومن اللقطات الساحرة التي برعت الكاميرا في تسجيلها عندما كان يجلس محمد في حديقة المدرسة منتظرا والده فسمع صوت عصفور صغير سقط من عشه. وبينما هو يتلمس طريقه بحثا عن مصدر الصوت مستخدما حاسة سمعه المرهفة يسمع صوت قطة تقترب، فيقاومها ويبعدها عن الفرخ ويأخذه بكل رأفة وحنان ويعيده إلى عشه بعد عناء كبير وهو يتسلق الشجرة. فيتحسس مناقير الفراخ الأخرى في العش بأنامله الرقيقة ويحتفل بهذه اللحظة ويضحك ضحكة بريئة تلاشى معها عالمه المظلم ويكشف لنا عن سعادة امتلأت معها جيوب السماء وكأنه رأى بقلبه وروحه صبغة الخالق. كذلك برعت الكاميرا في تصوير يدي محمد وهو يمس شعر شقيقته ويقول لها كم كبرت وتسأله كيف عرف ذلك ويقول لها: إن أصابعي تخبرني بذلك! وفي خضم كل هذا الحوار الروحي-الفلسفي تنبعث أصداء موسيقى تصويرية في أحسن نقائها وصفائها ورهافتها وأدائها، تهتز معها روح الإنسان ومشاعره وكأنها بزغت من فردوس الفردوسي. وتتراجع الكاميرا إلى الخلف وبطريقة جذابة لتكشف لنا عن طبيعة فصل الربيع الخلابة وتناغمت الموسيقى بالصورة بطريقة سحرية تكاد تنحبس معها الأنفاس. هذه هي جرأة الإبداع الإيراني السينمائي الذي يتحقق بأعجوبة وتحمل بصمة خاصة ومسحة فلسفية روحانية ورسالة إنسانية باهرة، وترصد لنا بحساسية عالية القيم الإنسانية النبيلة المتمثلة في عالم الأطفال والطبيعة والفلسفة والخلود بشكل دقيق ومفصل.
وقد تكون أفلام مجيد مجيدي التي تقدم صورة مشرقة عن الروح الإنسانية هي التي عبدت الطريق لهذا المخرج الإنسان ليرشح مرتين على التوالي عام 1999 وعام 2000 للأوسكار عن فيلمه 'أطفال الجنة' و 'لون الجنة' وعام 2002 عن فيلمه 'باران'. إن التزامه العميق وحبه للبشرية الذي ينهمر من روحه جعلت منه زهرة متبرعمة داخل إيران وخارجها حتى أن الصين اختارته مع أربع مخرجين دوليين لتصوير فيلم وثائقي افتتحت به الألعاب الاولمبية الأخيرة في بكين.
وفي الأخير نذكر أن الفيلم حصل على 10 جوائز دولية منها أحسن مخرج وأحسن ممثل وأحسن فيلم. كما رشح إلى ثمانية مهرجانات دولية أخرى من بينها الأوسكار. هكذا يصنع مجيد مجيدي معجزة لم تكلفه الكثير (180 ألف دولار) جلبت له أموالا طائلة ( مليونين من الدولارات في أمريكا لوحدها).

'العطر: قصة قاتل'
تحول كتاب الكاتب الألماني الشهير باتريك زوسكند العطر: قصة قاتل، الرواية الرائعة في قصتها وحبكتها ولغتها والمقروءة بشكل واسع والمعروفة جيدا داخل وخارج ألمانيا بعد ترجمتها إلى أكثر من أربعين لغة إلى فيلم كلف تصويره 64 مليون دولار. حقق الكتاب نجاحا كبيرا وقرأه 15 مليون أوروبي على الأقل. قراءة القصة فيها الكثير من المتعة، وأسلوب الرواية رائع، إلا أن تحويلها إلى فيلم كانت مهمة صعبة ويمكن القول بدون تردد كانت فاشلة، فما السر في ذلك؟
أخفق الفيلم رغم أنه جندت له جميع الوسائل المادية والمعنوية. السبب راجع إلى أن الفيلم يدور حول مسألة حساسة هي حاسة الشم. فأنف جان بابتيس غرنوي (بنيديكت ويشاو) هو أهم شيء في القصة. وفي القصة يبني القارئ عالمه الخاص المتصور ليصبح أنفه كذلك مثل أنف غرنوي يتحسس به جمال النساء على طريقته الخاصة. وعند بداية قراءة القصة يصعب على القارئ التوقف نظرا لتركيبتها الغامضة وسحرها المثير والجذاب في نفس الوقت. أما في الفيلم فأنف غرنوي مفقود. وبذلك تصبح حاسة الشم في الفيلم معطلة وفشلت الكاميرا من نقل حالة الشم عبر الصورة ولم يشعر المتفرج برائحة العطر السحري الأبدي الذي يحول غرنوي إلى قاتل مهووس خلال بحثه عن عناصره. ورغم الدور المتميز للبطل الرئيسي استحالت علاقة الأنف بروائح البشر عبر الصورة السينمائية. والأنف في الرواية هو المقياس الأهم عند غرنوي وما تتيحه الكلمة لقارئها في تخيل الروائح واستخدام حاسة الشم لكن صعوبة ذلك في نقله إلى صورة مجسدة. وشعرت بالإحباط لأني توقعت الكثير من الفيلم ولم أجد فيه شيئا سيما عندما رحل غرنوي إلى الجبال حيث لا حياة هناك إلا الطبيعة. فجاءت الصورة متجهمة وقاتمة ومفزعة تركز على التقاسيم الجسدية وان كانت لحظة يراد بها التمركز على الذات من أجل كشف أسرار الوجود والخلود. وهكذا يأخذنا مخرج فيلم العطر، توم تايكور إلى اتجاهات غامضة. وأصبح الفيلم أقرب إلى الأسطورة بمشاهده التاريخية ثم إلى حفل ديني حينما كان غرنوي على أهبة الصلب وكأنه المسيح. وهبط الفيلم إلى مستوى كاريكاتوري حين تعقب مسيرة الحسناء الجميلة (لورا) بحاسة الشم وسط الموانع والجبال لينقض عليها.
ومن شاهد عملي مجيد مجيدي وتوم تايكور يدرك أن العملين يحملان لمسات إبداعية مختلفة ومتميزة. وهنا تفوق مجيد مجيدي بكثير على توم تايكور بحذقه وحساسيته في التعامل مع الطبيعة عندما اختلى إليها بطله كذلك وحولها إلى لغة بصرية سينمائية تحمل المزيد من الجماليات سيما لمسات الطفل الضرير السحرية للنبات التي أضفت المزيد من الإبداع والغوص عميقا في النفس البشرية. ولا يملك المرء سوى أن يقع في عشق عالم مجيد مجيدي الذي جاء كتحفة فنية رائعة والاستنفار من العمل الآخر المظلم الزائف. وإذا ما وقفنا وتأملنا لقطتين من العملين: الأولى لحظة وقف الأب هاشم يشاهد ابنه يسقط من على الجسر وتجرفه تيارات الوادي القوية وتكشف عن صراع داخلي. والثانية لحظة تأمل غرنوي (لورا) وهي منتصبة أمامه وهو على أهبة تحقيق عنصره الثالث عشر. كلا الممثلين لا يبوح بكلمة واحدة وكلاهما برعا في أدائهما بنجاح باهر لكن أداء الممثل الإيراني حسين محجوب كان مذهلا ورائعا في هذا المشهد النهائي حيث اجتمع في وجهه نقيض وجمال ' الموناليزا ' ووضعنا أمام لغز كبير وفي حيرة أكبر مما سيفعل لاحقا وهو يشاهد ابنه ينجرف بعيدا. وطال الانتظار وكأنه عمر ينقضي بكامله قبل أن يقفز في النهر لينقذ ابنه. هنا تبدو موهبة وإلمام الإيرانيين بمعايير صناعة السينما العالمية ليس من الجانب التقني وحسب ولكن من الجانب السيكولوجي كذلك.
هكذا تتميز السينما الإيرانية عن سواها وتستقطب المشاهد العالمي بسحرها وتستحوذ على مخيلته وتطير به إلى عالمها الغني بإبداعات التصوير والإخراج والموسيقى، وتصنع 'عطرها الأبدي الخالد' في أدق التفاصيل الذي يحمل كل الجمال والمتعة والتألق الإنساني.
ناقد ومخرج سينمائي مغربي