القناة الثانية المغربية بين عزلة الشارع وإكراه الداخل
القناة الاولى ميؤوس منها فلا ينتظر ان تغطي احتجاجات ضد السلطة:
رشيد شريت
القناة الاولى ميؤوس منها فلا ينتظر ان تغطي احتجاجات ضد السلطة:
رشيد شريت
2011-03-20
ودرجة وعي حضارية كبيرة للمتظاهر المغربي ينم عن وعي سياسي كبير. طبعا مع استثنائنا لعملية حرق سيارة صحافيي القناة بمدينة الحسيمة بشمال المغرب أو أي سلوك آخر من شأنه تهديد السلامة الجسدية أو الاعتداء المعنوي على صحافيي القناة. وذلك لأن حركة 20 فبراير، هي أولا حركة شعبية سلمية، ومن اجل الكرامة اولا وأخيرا.
بيد أن هذه العزلة الشعبية الكبيرة للقناة، جعلت منها أحد الأطراف الفاعلة، كخصم إعلامي يندد به المتظاهرون، وقد شهدت شخصيا مسيرة بمدينتي التي تبعد مئات الأميال عن الدار البيضاء، يندد المتظاهرون فيها بالقناة، ويطلبون منها الرحيل عن ساحة التظاهرة بشعار 'دوزيم برا' وتارة بشعار 'دوزيم ديكاج'. علما ان القناة حضرت التظاهرة متخفية ومتنكرة في ثوب شعبي، إذ طمست كل المعالم الدالة على هويتها؟
هذا ما يدفع بنا إلى طرح سؤال محوري هو، هل هذه العداوة والمقاطعة الشعبية غير المسبوقة شيء طارئ أم عداوة قديمة لم تتح لها فرصة الظهور في الماضي؟ وما أسباب هذه العزلة والمقاطعة غير المسبوقة؟
في البدء كانت دوزيم هانم
كان للشركة المالية الملكية أمونيوم شمال افريقيا المعروفة بـ'اونا'، دور ونصيب كبيران في ولادة القناة يوم 4 مارس/آذار 1989، بالدار البيضاء العاصمة الاقتصادية للمغرب. وكان الهدف إغناء المشهد السمعي البصري المغربي. بيد أنها ولدت والعجمة صبغتها الرئيسية، إذ هيمنت عليها صبغة فرنسية الهوى والهوية، ويكفي أن اسمها الرسمي المعتمد هو دوزيم، ما يعني الثانية بالفرنسية. وعلى الرغم من محاولات مغربتها وتقديمها على أنها منا وإلينا، إلا ان الواقع كان يؤكد عكس ذلك، نتيجة الأسطول الإعلامي الفرنسي الذي كان الآمر الناهي في القناة. علاوة على أسطول الورثة المفرنسين المتنفذين من المغاربة الوارثين لكراسي السادة الفرنسيين الذي غادروا القناة، وفضلوا حضور الولادة ومواكبتها من دون ان يحضروا الوفاة التي بدأت تظهر ساطعة، بداية من منتصف 1993، نتيجة تراجع نسبة المنخرطين، وتوجههم إلى المقعرات الفضائية المفتوحة على السموات والقنوات العربية والأجنبية، سواء كانت إخبارية أو ترفيهية أو عامة.. هذا علاوة على ان القناة من أصلها لم تكن موجهة لعموم المغاربة، الفقراء منهم وهم عموم الشعب المغربي،لأنه كان لمتابعتها يجب دفع اشتراك، وقبله اقتناء جهاز تشفير خاص بالقناة. وحتى الطبقتان المتوسطة والغنية المحافظتان لم تكونا قادرتين على متابعتها في جو أسري مفتوح، وذلك لأنها كانت تخرق ستار الحياء للأسر المغربية بعرضها لفقرات وبرامج خادشة للحياء، وطبيعي جدا على قناة تفكر تفكيرا باريسيا وتستنشق هواء فرنسيا، أن لا تلقي بالا لقاموس الحياء والحشمة.. وأكيد ان هذا النزوع 'الإقطاعي' للقناة التي كرست النزعة الطبقية في المغرب بين مغاربة دوزيم ومغاربة من دون دوزيم، كان له وقع كبير على صورة ومخيال القناة في الشارع المغربي، ونمو الاغتراب والنفور من القناة التي لم تكن في يوم ما قناة شعبية. وربما لهذا السبب كانت القناة محل نقد بالغ من عدد من النخب الفكرية المغربية، وعلى رأسهم البروفيسور عالم المستقبليات المهدي المنجرة شافاه الله، الذي كان يقاطعها ولا يفوت الفرصة إلا وانتقدها شكلا ومضمونا.
رحلة الإفلاس والتودد
بعد إفلاس القناة منتصف التسعينات من القرن الماضي، قررت الجهات العليا تأميم القناة، اخذا بقاعدة إعلامية مغربية تقول بأن إكرام الإعلام الفاشل تأميمه. على أن يتم تغيير سلوك القناة نحو المغربة الجزئية، وذلك بتدخل مقص الحياء، بقص جزء من اللقطات الخليعة من الأفلام التي لم تكن تقص سابقا، لأنها لم تكن يعنيها المواطن البسيط، مع حملات تودد إلى المواطنين بين الفينة والأخرى، عبر برامج اجتماعية، وشيء من اللمسات الدينية في شهر رمضان، كبرنامج المسابقة القرآنية في التجويد، ولنا ان نتأمل المشرف نفسه على برنامج اكتشاف مواهب الغناء والرقص، هو نفسه المشرف على مواهب التجويد! مما يبين طبيعة التدين الطقوسي الفكلوري المتبنى من طرف القناة.. إذن وبعد عقد من التأميم ومحاولة إعادة بناء الثقة مع المشاهد المغربي، يمكن وصف النتائج بالمخيبة للآمال، وذلك نتيجة عدد من العوالم الذاتية والموضوعية، فمن العوامل الذاتية نجد ان القناة والآمرين والمتنفذين في القناة لم يتغيروا، حتى أن نعت المرأة الحديدية أصبح لقبا معروفا ومتداولا في الأوساط الإعلامية وحتى الشعبية المغربية، كناية عن السيدة سميرة سيطايل مديرة الأخبار بالقناة ونائبة المدير العام، التي هي بمثابة الحاكم المدني الأمريكي السابق بالعراق بول بريمر، فعلى الرغم من تغيير المديرين وتناوبهم على القناة. فهذا لا يغير من مكانة المرأة الحديدية. ويكفي أن المدير الحالي للقناة بعيد كليا عن الإعلام التلفزي، فالسيد سليم الشيخ القادم من مؤسسة للأجبان، وجد نفسه بقدرة قادر على رأس مؤسسة للإعلام. ومن العوامل الذاتية أيضا عمق تجذر الصورة النمطية التي اصطبغت بها القناة في المخيال الشعبي، حيث لم تكن القناة في يوم من الأيام قناة شعبية لعموم المغاربة، وهو ما لا يجده المشاهد البسيط المنتمي لبيئة الفقر والبؤس الاجتماعي، حيث السهرات والبذخ في الإنفاق عليها السمة البارزة للقناة. أما عن العوامل الموضوعية، فلعل كسر الاحتكار الإعلامي عن طريق فتح القنوات الفضائية الملتقطة بواسطة المقعرات التي غزت السهول والتلال المغربية، وقوة التنافس الشرس بين من يجلب المشاهد أكثر، كلها عوامل جعلت الإعلام الرسمي الجامد غير مستوعب لقواعد التنافس والتحيين، وغير قادر على جلب المشاهد المغربي، لاسيما في الجانب السياسي والتحليلي والنقاشات السياسية المفتوحة غير المسقوفة. وما يترجم هذا على الواقع نكسة قناة ميدي 1 سات التي أريد لها عند إنشائها أن تنافس الجزيرة والعربية.. ولكن الحلم الكبير تحول إلى كابوس مرعب دفع القناة في الأخير إلى ان تنافس القناة الثانية في سرعة العجز المالي ورداءة المضمون، وأيهما يفلس أولا.
موقف سلبي من حركة الشارع
وبيت القصيد، لماذا هذه العزلة الشعبية وهذا النفور والمقاطعة للحركة الاحتجاجية الشبابية بالمغرب، حتى يصبح شعار مقاطعة ونقد دوزيم وطردها من الساحات الاحتجاجية لحركة 20 فبراير مسألة اعتيادية في التظاهرات؟ وللموضوعية فالتعتيم الإعلامي هو الصفة المعممة للإعلام العمومي المغربي، بدءا من القناة الأولى ووصولا إلى القناة الثانية، مع استثناء ميدي1 تي في لأن نسبة مشاهدتها جد ضعيفة. لكن التركيز على القناة الثانية كثيرا دون الأولى، يرجع إلى كون القناة الأولى قناة ميؤوسا منها لأنها رسمية لا تهتم إلا بالأنشطة الرسمية، أو بتعبير البعض هي قناة المخزن. لذا لا ينتظر أن تغطي احتجاجات منددة بالمخزن نفسه! بيد أن الأمر يختلف عند القناة الثانية التي تقدم نفسها كقناة منفتحة شيئا ما حداثية. ويبقى أكبر مطب إعلامي للقناة هو حركة 20 فبراير الاحتجاجية. وربما يكون إهمال القناة لمظاهر حركة 20 فبراير أفضل بكثير من عملية الالتواء الإعلامي، بنشر لصور وأرقام لا تنم عن حقيقة الواقع، وهو أخطر بكثير من عدم المواكبة من أصله. ويكفي انه وفي أثناء كتابة هذه السطور، وقوع حدث قمع مظاهرات يوم الأحد 13 مارس بالدار البيضاء بشكل غير مسبوق جعل المغرب يتربع على رأس المواضيع الدولية، حيث عدد الجرحى بالعشرات ناهيك عن الاعتقالات الواسعة، وعملية البطش الكبيرة التي طالت حتى الصحافيين أنفسهم، الذين نالوا حظهم كاملا غير منقوص من وجبة دسمة منوعة بين الصفع والضرب والشتم بألفاظ بذيئة ولنا ان نتابع حدثا مدويا كهذا، كيف صرفته القناة؟
ففي نشرة الظهيرة ليوم الحدث لم تأت القناة على ذكر الخبر. علما بان مسرح الحدث أو المعركة حقيقة لا يبعد إلا بضعة كيلومترات عن مقر القناة الكائن بالدار البيضاء أيضا. تاركة ذلك إلى نشرتها الرئيسية المفرنسة للتاسعة ليلا إلا ربع. وبعد أن تصدرت نشرة أخبار القناة زلزال اليابان والأحداث في ليبيا، وكل الأخبار الأخرى، ارتأت عبقرية القناة ان تبث الخبر في آخر النشرة في عملية مقصودة للتعتيم والتقزيم ليس إلا، وإلا ما الحكمة في كون أهم حدث وطني تناقلته وكالات الأنباء والقنوات الأجنبية، يتم بثه في آخر النشرة؟ ولنا أن نتخيل كيف سيتم تخريج الخبر والتغطية اليتيمة لحادثة قمع المتظاهرين السلميين. إذ تم اتهام جماعة العدل والإحسان بانها كانت السبب وراء ما حدث، وان المسيرة لم يسبقها ترخيص، والجميع يعلم أن الجماعة مجرد مكون من مكونات حركة 20 فبراير، التي يحركها شاب متحرر تساند محنته قوى حية حزبية وحقوقية ونقابية. وان الذي حدث كان وقفة وليس مسيرة. وطبعا عوض أن يتم الاستماع إلى وجهة نظر الطرفين، سواء كان المشارك في الوقفة وليس المسيرة، من الشباب المعتدى عليهم، ثم الآمرين بالضرب من المسؤولين الأمنيين، أدرجت القناة تصريحا لوالي أمن الدار البيضاء مصطفى الموزوني، الذي لكم أن تتوقعوا ماذا سيمكنه ان يقول في مثل هذا الموقف!
الذي ساهم شخصيا في قمع المتظاهرين، كما أظهرت الصورة المتناقلة في الفيس بوك.
ثم بعد ذلك، تصريح آخر منتقى بعناية شديدة للسيد أمين عام حزب الاشتراكي الموحد، الذي لم يكمل تصريحه إذ تم قطعه عند حديثه على ان الوقفات لا تحتاج إلى تراخيص عكس المسيرات، مفندا بذلك لغو الرواية الرسمية، علما بان الذي كان على القناة اخذ تصريحات الشباب أنفسهم الذين عنفوا وقمعوا ونكل بهم تنكيلا، بل حتى تصريح السيد مجاهد لم يتم بثه كاملا لأن التتمة كانت عبر قناة الجزيرة في نشرتها المغاربية، إذ اتصلت القناة به مباشرة من دون تدخل مقص الرقيب الأمني، حيث عبر عن استيائه العميق لحالة القمع التي طالت الشباب ومناضلي الحزب وقياداته من دون أن يتهم أن الواقف والمحرض على الوقفة كان العدل والإحسان. ولقد قصدت بعدها الفيس بوك الذي يمكن وصفه بأنه أضحى فعلا قلعة للشباب الثائر بالمغرب، وقوى المعارضة الحية التي لا تجد لها قدما على الإعلام الرسمي، حيث كانت الصور والفيديوهات والاستجوابات الكاملة عن مجزرة الدار البيضاء، تغني الناظر وتزيد، ومعها التنديد الكبير للشباب المقموع على التضليل والتعتيم الإعلامي الرسمي وعلى رأسه القناة الثانية مما يوحي لنا بحجم المقاطعة الشعبية اللا مسبوقة للقناة.
كاتب وإعلامي من المغرب
Cherriet.presse@gmail.com