Wednesday, July 13, 2011

حسن المنيعي: أوضاع المسرح المغربي


حسن المنيعي: أوضاع المسرح المغربي
أوضـاع المسـرح المغربــي
حسن المنيعي

I ) المســرح التقليـدي
تحاول بعض الدراسات التأكيد على تأثـر البرابرة المغاربة بالرومان في أسلوب حياتهم وعلى الخصوص في مجال الفن المسرحي. لكن التاريخ لم يحتفظ لنا بأية وثيقة في هذا الصدد. وبما أن صاحب كتاب «إفريقيا الرومانية» (1) يقر بحتمية هذا التأثير، فإننا نجد الباحث حسن السايح يتحدث عن المدن المغربية الرومانية وعن الحلبات التي تتوفر عليها باعتبارها فضاءات احتضنت عروضا مسرحية ونماذج فنية من الفولكلور البربري. إضافة إلى ذلك، فإن هناك كما يقول «بقايا حكايات ونوادر أقاصيص على ألسنة الحيوانات أوردها الكاتب البربري أبوليوس Apuléé وكانت معروفة في العهد الروماني، كما خلف إليزلان من الأطلس المتوسط قصائد تمجد الفروسية والبطولة»(2).
وهكذا، فإذا قبلنا فكرة «رومنة» البرابرة، فإننا بحاجة إلى البحث عن تمفصلاتها في مجال المسرح الذي ظل في شكله الإيطالي إنتاجا غريبا عن الحضارة المغربية. لذا، نرى أن البداية الضمنية للمسرح المغربي تكمن في كل الأشكال الفرجوية التقليدية التي تنطوي على إرهاصات مسرحية، إما لاهتمامها بالمقدس (الاحتفالات الدينية) أو لاندراجها في ممارسات اللعب والاحتفال التي تقوم في الأساس على فنون السرد والحكي والرقص والموسيقى والإنشاد.
لقد كانت هذه الممارسات كلها تعرف إنجازها في الزوايا Zaouia والبيوت والساحات العمومية، وكذا في أسواق القرى والمداشر. ونظرا لتنوع مؤديها من رواة، ومداحين، وبهلوانيين، وشعراء، ومنشدين، فقد اعتبرها الدارسون للمسرح نواة مسرح تقليدي(3) تجسدت أبعاده في رواية الملاحم والسير (سيرة عنتـرة - سيف بن ذي يزن - السيرة الهلالية، إلخ) وفي فرجات البرابرة كـ «إمديازن» المرتبطة بقبيلة آيت حديدو، وقصائد «إزلان» الدامية، و«عبيدات الرما» وغيرها من الألعاب والظواهر الاحتفالية الروحانية (عيساوة - حمادشة - هداوة...).
أما عن الأشكال الماقبل المسرحية المعروفة لدى الجميع كـ «الحلقة» و«البساط» و«سلطان الطلبة» و«سيدي الكتفي»، فإنها تعد تظاهرات فنية أصيلة يتم خلالها لقاء مباشر بين المؤدين والجمهور، وذلك في جو من المرح تؤسس أبعاده الدرامية طقوس اللعب والارتجال والضحك، واستثمار مخزون التراث الشعبي الذي يرتكز في الغالب على سرد النوادر والحكايات من طرف ممثل جوال يحسن فن القص والإيماءة: «يالها من إيماءة تلك التي يقوم بها القصاصون. العيون تكاد تخرج من الرأس... الأفواه تتلوى والخدود تنتفخ، والأيدي ترتفع إلى الأصداغ وترسم أقواس دوائر في الهواء. وهذه الحكايات التي تصفر أو تتدحرج وتتلكأ وتأخذ في كل مرة معنى مختلفا. هذا كله مفقود في الحكاية المطبوعة. البلد نفسه قد اختفى. البلد بأصوات حيواناته وإيقاعات طبوله وصفير الرياح. البلد الذي يؤسس الأسلوب كما تفعل الصور والحركات»(4).
إن هذا البعد التمثيلي الذي تقوم عليه الحكايات هو الذي جعل هذه الأشكال الماقبل/مسرحية تنطوي على خصوصيات العرض المسرحي ومواصفاته كما نلمس ذلك من خلال التحديد التالي:
- الحلقــة
لقد كانت الحلقة - ولاتزال - فضاء لعبويا (Ludique) شتركا بين المدن والقرى تعرض فيه مجموعة من الفانين أعمالها المدهشة والطريفة وكل ما يمتلكه كل واحد منهم من مهارات فنية في مجال الحكي عن الإنس والجن والحيوان، وابتكار ألعاب بهلوانية أو سحرية أو ارتجال الشعر والنكت. لذلك، فإن هذا الفضاء يعج دوما بالحركة والإيماءة والموسيقى وفنون القول إلى درجة أن كل من يرتاده من المتفرجين يجد نفسه في غمرة الجد والهزل، وفي عوالم يمتزج فيها الواقع، والخيال، والتاريخ، واللاتاريخ لأنه مكان لا زمني يظل مفتوحا عبر شكله الدائري وفرجاته القائمة على الارتجال، وبلاغة الجسد والإيقاع والموسيقى: الشئ الذي يجعله يستحضر كل الأزمنة في لحظة واحدة إما على لسان الراوي، أو في حركات عبيدات الرما وأولاد سيدي احماد وموسى، وإلا، في لوحات «القراد» ومقالب شخصيات فذة أمثال جحا، وجحجوح، وحديدان، والساط، وبقشيش، ولمسيح، وغيرهم.
ومن ثم، فإذا كان الراوي هو أشهر فنان يشتغل في هذا الفضاء، فإن طريقة عمله، من حيث القص وتشخيص السير الشعبية وتقطيعها إلى مراحل وحقب، قد جعلت منه أول رائد للفعل المسرحي بالمغرب كما اعترف بذلك الفنان الطيب الصديقي، حيث قال متحدثا عنه: «منك تعلمنا مهنتنا.. من خلال عصا واحدة لاغير تحولها حسب إرادة الحكي.. تصبح العصا شجرة مخضرة. تتحول إلى مظلة أو إلى حصان راكض. وفجأة، هو ذا السيف الذي يجرح أو هو ذا القلم الذي يدون... المجد لك أيها الراوي القديم الذي يبتعد بتؤدة عن حياته كل مساء...» (5).
باختصار، إن الحلقة هي «مهد المسرح المغربي»، أي أنها البؤرة الأولى التي ساهمت في ترسيخ وسائل التعبير المسرحي وتحقيق التواصل مع الجمهور من خلال مشاركته الفعلية في كل ما يقترح عليه من سرد عجائبي ومن عروض شيقة ومتنوعة يروم أغلبها إلى التسلية وإلى نقد الأوضاع الحياتية.
- البســـــــاط
يعتبر البساط مسرحا ترفيهيا يعود تاريخ نشأته إلى القرن الثامن عشر، وذلك حينما قدم أول عرض في قصر السلطان سيدي محمد بن عبد الله (1757 - 1790)، ثم انتقلت فرجاته بعد ذلك إلى المنازل والساحات العمومية قبل أن يتفرع إلى أشكال عديدة من التمثيل الهزلي الانتقادي والتمثيل الطرقي الديني. لكن أهم فرجات مسرح البساط هي التي كانت تقدم بدار المخزن، أي في حضرة الملوك العلويين الذين كانوا يرعون هذا الفن الشعبي لاعتبارات عديدة يأتي في مقدمتها الاتصال المباشر برعاياهم، ثم المشاركة في احتفالاتهم والاطلاع على مشاكلهـم اليوميـة.
وهكذا كانت الأعياد الدينية (عاشوراء - عيد الأضحى) فرصة سانحة بالنسبة للفرق التي تقصد قصر الملك في موكب «كرنفالي»، ثم تأخذ مكانها في فضاء خاص. وحينما يبدأ الحفل «اللعب» يعم أرجاء القصر وفسحاته سيل دافق من الضحك والمرح نظرا لاندراج العروض في مجال التنكيت والهزل، ونظرا كذلك لكون المبسطين يفعلون بكامل الحرية، لأن أريحية السلطان هي التي تشجعهم على ذلك.
من هنا، كانت بعض الفرق المحترفة تقدم تمثيلياتها في شكل مشاهد مركبة، كثيرا ما ينحصر واحد منها في تبليغ شكوى إلى الملك للتعبير عن تذمر بعض التجار أو العائلات من أحد رجال السلطة. وعليه، فإذا كان مسرح البساط يقوم على الضحك والنقد الاجتماعي، فإنه قد ابتدع شخصيات أمثال «الساط» الذي يرمز إلى القوة، و«حديدان» الذي يتألق بنكران الذات وحب الغير. أما الممثلون، فقد كانت لهم أسماء خاصة نذكر منها «البوهو» و«لمسيح». لذلك، يمكن اعتبار البساط بشخوصه وممثليه وجمهوره مسرحا شاملا يقوم على التنكر الكرنفالي، كما يقوم على نصوص مخططة سابقا وعلى فعل الارتجال والحركة والغناء. وهذا ما جعله يكتسي طابعا شعبيا إلى درجة أنه عرف عصره الذهبي إبان حكم المولى عبد العزيز (1895 - 1904)، كما أنه لعب دورا هاما في نطاق الحركة الوطنية لحضوره كفن يجمع بين الجد، والفكاهة، والغرابة، ونقد عيوب المجتمع، وتجاوز الإداريين لسلطهم.
- سلطــــــان الطلبـة
ارتبط هذا المسرح بطلبة جامعة القرويين. وهو عبارة عن احتفال موسمي يقوم خلاله طالب مرشح بدور ملك حقيقي. أما عن أصل هذه التظاهرة، فإنه يرجع إلى عهد السلطان مولاي رشيد مؤسس الدولة العلوية (1666 - 1679) الذي عاش فترة حرجة من حياته حينما اضطر إلى مواجهة تمرد «ابن مشعل» الذي كان يضطهد سكان «مدينة تازة»، وكذا مواجهة أخيه مولاي أحمد الذي يزاحمه على الحكم، ويسعى لذلك إلى القضاء عليه بعد موت أبيهما مولاي الشريف أمير تافيلالت.
ولجعل حد لهذه المواجهة، قصد مولاي رشيد زاوية الشيخ «اللواتي» بناحية تازة، واستنجد بأتباعه من الطلبة الذين ساعدوه على قتل الطاغية ابن مشعل: الشئ الذي أتاح له فيما بعد محاربة الأخ والدخول إلى «مدينة فاس» التي بويع فيها ملكا سنة 1666.
ولمكافأة طلبة الشيخ اللواتي، نظم لهم الملك المتوج نزهة في وادي فاس أتاح لهم خلالها فرصة اختيار واحد منهم سلطانا يحكمهم أسبوعا كاملا. من هنا، انحدرت تسمية الفرجة التي أمست بطريقة عفوية تقليدا مسرحيا يقام كل سنة في فصل الربيع، وتوزع فيه الأدوار انطلاقا من الملك (الذي يحصل على هذا اللقب في مزاد علني) مرورا بحاشيته، وصولا إلى الجمهور المشارك المتكون من الطلبة وسكان المدينة.
وهكذا يستغرق الحفل أسبوعا كاملا يشارك فيه السلطان الحقيقي بزيارة عابرة إلى سلطان الطلبة ليقدم له بعض الهدايا، وليلبي كذلك بعض طلباته. أما عن اللعبة، فإنها تمر في جو من المرح والبهجة، وتخضع لمراسيم سلطنة زائفة كلها ولائم (زردة)، واحتفالات غنائية، وقراءات شعرية وخطب ساخرة. وحينما تنقضي الليلة السابعة، يغادر السلطان عرشه ومملكته، وإلا تعرض للضرب بالعصا من لدن حاشيته لإشعاره بزيف ملكه.
ونظرا لأهمية هذه التظاهرة المتولدة عن حدث سياسي، فإن الأدب المغربي قد حرص على توثيقها كما نلمس ذلك في قصيدة الزعيم الراحل علال الفاسي، حيث قال ما نصـه:
«ويخرج سلطان التلاميذ راكبـــــــا
على فرس في جيشـه المتكـاثـــــــر
عليه مظل الملـك ينشـر بينمــــــــــا
بيارقـه في العيـن مثل البواتـــــــــر
وتصدح أنغـام العسـاكـر حولــــــــه
ويتبعها أصـوات طبــل وزامــــــــر
يحـف بـه أتبـاعــه وجمعهـــــــــــــم
لـه لبدة حمـرا تـروق لنــاظــــــــــر
وفي وسط الأيام يــــأتي لربعــــــــه
جلالـة مــولانـا بركـــب مظـاهـــــر
ويأتي بأنــواع الهـدايـا موضحـــــــا
لقيمـة أهــل العلــم عند الأكـابـــــــر
ويخـرج أبنــاء المـدارس كلهـــــــــا
لرؤيـة عيد الأنــس بين المناظــــــر
فلازال عيـد الأنـس يزهـو بأهلـــــه
دليلا علـى مجــد لقــومي غابـــــر»
انطلاقا من الوصف الوارد في هذه القصيدة، والذي يعكس مواصفات الاحتفال، يمكن اعتبار سلطان الطلبة وقعة مسرحية (Un Heppening) بمعنى الكلمة، لأن مراحلها وفصولها تقوم على الأداء العفوي، والارتجال، وفنون الأدب والشعر. وهذا يعني أنها تؤسس تمسرحها (Théâtralité) بمحض الفضاء الذي تجري فيه، وكذا بمحض عنصر الاندماج في اللعب الذي يحمل المشاركين والمؤدين على الانصهار في أدوارهم، لدرجة أن «الإيهام» المتولد عنها يعد شاملا يوازي شمولية التظاهرة نفسها، نظرا لما تحتويه من فنون التشخيص والحكي، والإلقاء الشعري، والغناء الشعبي (قصائد الملحون).
- سيــدي الكتفــي
عرف هذا المسرح بمدينة الرباط، وذلك في عهد السلطان مولاي يوسف (1912 - 1927)، ثم انتشر في بعض المدن الكبرى من المملكة. وإذا كنا لا نعرف الشئ الكثير عن أصله، فإنه من المرجح أن الصناع والحرفيين هم الذين كانوا يؤطرون طقوسه كما كانت تفعل بعض الفرق الطرقية (حمادشة - عيساوة). ومن ثم، فإن الغاية بالنسبة إليهم هي التجمع في مناسبات خاصة لقراءة الأذكار والأمداح النبوية، وكذا لقضاء لحظات ممتعة فيما بينهم: الشئ الذي يضفي على تجمعهم طابعا مسرحيا يخضع لقانون «اللعبة» التي يتكفل بتسييرها رئيس (مقدم). بمعنى آخر، إن مسرح سيدي الكتفي يؤسس عروضه عن طريق العلاقة القائمة داخل مجموعة مغلقة وفي نطاق فضاء محدود [زاوية أو بيت أحد أعيان المدينة]. أما المتفرجون، فهم الأشخاص الخارجون عن المجموعة. لذلك، كان المسرح الذي يمارسونه عبارة عن طقس خاص يتكرر في كل اجتماع، «أي في كل حلقة تمثيلية، حيث يأخذ المقدم مكانه وسط المجلس وحده، ثم يأتي الأفراد (أي الممثلون) ويدخلون واحدا إثر واحد في تمهل. وكل داخل يتقدم للسلام على المقدم وذلك بأن «يقدحه» بضربة الكفين على رأسه ويقبل يديه..وعندما يلتئم الجمع، يفتح المقدم الجلسة بتعليمات في سير الأداء، ويوصيهم بالجد والبعد عن الضحك والارتخاء وتقمص الدور على أحسن وجه. وينذرهم بالعقاب الشديد الذي ينتظر كل من تسول له نفسه من بينهم أن يضحك أو يسئ إلى التمثيل.
»وبعد الانتهاء من تلك الوصية، يبدأ بقراءة الفاتحة والدعاء لصاحب البيت أو المستضيف بينما الآخرون يؤمنون عليه بكلمة «آميـن». ثم يشرع المقدم في أداء «ديترامب» (Dithyrambe)، أي القصيدة التمثيلية: وهي في الغالب تعريض وتشهير ببعض الأفراد المعروفين في المدينة. وقد يكون من بينهم فرد أو أكثر ممن طردوا من الطائفة؛ وقد يكون التشهير لمن تثبت عليه خيانة أو اشتهر بالمبالغة في تناول «الكيف» و«النرجيلة» أو ارتياد المواخير ودور الفساد. وتبدأ الحضرة متمهلة بجذبة يكون البصاق خلالها يتطاير، ويتغلب المقدم على الأفراد ثم يتغلبون عليه» (6).
*
* *
هذه إشارة إلى بعض الأشكال الفرجوية التي تؤكد للجميع حضور مسرح تقليدي مغربي ذي أصالة فنية. ومن الأكيد أن هناك أشكالا وأنماطا تمثيلية أخرى يجب التعريف بها ودراستها من حيث مكوناتها الدرامية وتجذرها في الثقافة الشعبية، وكذا من حيث جاهزية توظيفها كإواليات فنية في عملية تأصيل الحركة المسرحية ببلادنا.
II ) أوضـاع المسـرح المغـربي
1 ) التأسيس:
وإذا كانت هذه الأشكال تشكل البداية الضمنية للمسرح المغربي، فإن البداية الفعلية تعود إلى تأثر المغاربة بالفرق الأجنبية الزائرة التي قدمت عروضها في بعض المدن، قادمة من المشرق العربي ومن إسبانيا وفرنسا. ومع أن إدارة الاستعمار الأجنبي لم تبذل أي جهد لتشجيع المغاربة على ممارسة المسرح - وإن كانت تحرص على إشباع رغبات جاليتها من خلال ما تقدمه لها من مسرحيات ترفيهية بوليفارية الطابع - فإن المسرحيين الرواد أمثال محمد القري، والمهدي المنيعي، وعبد الواحد الشاوي، ومحمد بن الشيخ، ومحمد الزغاري وغيرهم، قد تأثروا بالفرق القادمة من المشرق العربي، حيث حفزتهم على التشبع بالفن الدرامي والتمرس على أسلوبه الإيطالي، والخوض في عوالمه تأليفا، وترجمة، وتمثيلا، وإعدادا فنيا.
وهكذا، وانطلاقا من سنة 1923، أخذت الفرق تتأسس في المدن الكبرى كفاس، ومراكش، والدار البيضاء، ومكناس، وطنجة، وتطوان، كما عمت المغرب حركة مسرحية نشيطة تجسدت في أعمال مسرحية عديدة نذكر منها: صلاح الدين الأيوبي (نجيب الحداد) أدب العلم ونتائجه - اليتيم المهلهل - الأوصياء (محمد القري) العباسة أخت الرشيد - طرتوف (المهدي المنيعي) المنصور الذهبي (محمد بن الشيخ) - يتيم الصحراء - في سبيل المجد (عبد الواحد الشاوي)، إلخ.
لقد كانت هذه الأعمال الدرامية تعبر عن قناعة أصحابها الفكرية وعن تضحيتهم من أجلها كما حصل للأستاذ محمد القري الذي مات شهيدا في منفاه القسري بالصحراء. وهذا يعني أن المسرح المغربي كان يرتكز في عهد الحماية على كتابة ملتزمة تهدف إلى توعية الجمهور بقضاياه، كما تهدف إلى التعبير عن مواقف وطنية محمومة تفضح ممارسات الاستعمار وصلافته وسياسته القمعية. ومن هنا مشاركة الزعيم الوطني في خضم الفعل المسرحي (مثلا عبد الخالق الطريس ومسرحيته «انتصار الحق على الباطل») وكذا الفقيه والتاجر، إضافة إلى المثقفين الذين اهتموا بقضايا المسرح إما بالحديث عن غاياته وأهدافه النبيلة، أو بمواكبة العروض إن على مستوى التغطية الصحفية أو على مستوى التنويه والكتابة النقدية.
وعليه، فإذا كانت هذه الحركة قد ركزت على النص المسرحي ومضمونه الفكري مع مراعاة الجانب الفني حسب التصورات الأولية والمتواضعة عن الإخراج المسرحي، فإن هذا التركيز على النص يعد رد فعل ضد إعلان الظهير البربري (1930) وسياسته الرامية إلى تمزيق كيان الأمة المغربية. لهذا، عرف مسرح الحماية فيضا زاخرا من الكتابات اهتمت بصيانة اللغة العربية وحمايتها من الضياع، كما اهتمت بالتعامل مع التاريخ كمادة تخول للكاتب تمرير خطابه السياسي عبر شبكات من الرموز والدلالات تؤدي في الغالب إلى التحايل على الرقيب الإداري وإلى تجنب «مصادرة» العرض.
لقد استثمرت هذه الوضعية إلى حدود سنة 1955 بعد أن تجذرت معالمها مع وثيقة المطالبة بالاستقلال (11 يناير 1944). وهذا لا يعني أن التجربة الأولى لتأسيس مسرح مغربي قد انحصرت في حدود النص العربي الفصيح، بل اعتمدت أيضا على الكتابة باللغة العامية (مثلا مسرحية عبد الواحد الشاوي: «فين دواك يامريض» ومسرحية رشاد بوشعيب «دموع اليتيمة»)، إلخ.
في هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى أن المسرح المغربي قد طرح قضية اللغة المسرحية في وقت مبكر (أي في حدود سنة 1934). ونظرا لأهمية هذا الموضوع، فقد عاب الناقد عبد الكبير الفاسي على محمد القري استعماله اللغة العربية الفصحى على لسان اليهودي والبربري في روايته (مسرحيته) «الأوصياء» (1934)، كما دعا في مقالته إلى ضرورة «قيام العمل الدرامي على عنصر التسلية لا على أسلوب الخطبة والدرس الذي يولد الملل في المتفرج»(7).
نستفيد من هذه الملاحظة الذكية أن تجربة التأسيس لم تكن تخلو من مجهود نقـدي يطرح بعض الأسس النظرية للمسرح، حيث نجد عبد الكبير الفاسي ينحاز إلى ما أسماه «الرواية ذات «النظرية» (La pièce à thèse)، أي التي تدافع عن نظرية علمية أو فلسفية أو اجتماعية»، كما نجده يدافع أيضا عن حق الجمهور وعن مكانة اللغة كأداة للتواصل.
ونظرا لأهمية مقالته، فقد أثارت ردود فعل لدى بعض المسرحيين وعلى رأسهم محمد بن الشيخ الذي دافع في مقالته «لغة الروايات المسرحية» عن اللغة العربية الفصحى كأداة وحيدة للكتابة المسرحية. ومن ثم، فإذا كان النقد يؤكد اعتماد المسرح على النص الأدبي - كما قلنا سابقا - فإن المنطلقات الفنية ستأخذ مكانها في الإنجاز المسرحي ابتداء من سنة 1950 حينما رحل بعض الشبان إلى فرنسا للتتلمذ على أساتذة المسرح، وحينما أسست مراكز للتكوين الدرامي في الدار البيضاء، والرباط، وفاس، والجديدة ومنها على الخصوص «المركز المغربي للأبحاث المسرحية» (1953) الذي تخرج منه - تحت قيادة أندري فوزان A. Voisin - عدد من الفنانين الذين سيساهمون في إثراء الحركة المسرحية بالمغرب أمثال الطيب الصديقي، وأحمد الطيب العلج، وعبد القادر البدوي، وعبد الصمد دينية وغيرهم.
وقد كان من بين أطر هذا المركز، إلى جانب فوزان وبيير ريشي P. Richet، الأستاذ عبد الله شقرون والمرحوم عبد الصمد الكنفاوي والأستاذ الطاهر واعزيز الذي ترجم مع الكنفاوي والعلج بعض المسرحيات الأوروبية (عمايل حجا - المعلم عزوز - عمي الزلط). ولا ننسى أن هذا المركز هو الذي أدى إلى تاسيس أول فرقة احترافية (فرقة التمثيل المغربي) التي مثلت المغرب في مهرجان «مسرح الأمم» بباريس (1956)، ونالت إعجاب الجمهور الفرنسي بمسرحيتها المقتبسة عن موليير «عمايل حجا» Les fourberies de SCAPIN وبأخرى مغربية الميسم والصياغة الفنية، ونعني بذلك مسرحية «الشطـاب» (8) التي كانت وليدة تأليف جماعي. وبالتالي ألا يمكن القول بأن السمعة الطيبة التي حظي بها المسرح المغربي في الخارج لدليل واضح على ميلاد مسرح جاد ساهم في تدعيم أسسه رواد عصاميون ومبدعون شباب تمرسوا على تقنيات الغرب، ثم عملوا على إدراج عملهم في نطاق العالمية وتتويجه مرة ثانية في بلجيكا (1958).
1 ) عن المسـرح المغربـي الحديث (أو مسرح مابعد الاستقلال)
في الوقت الذي عرف فيه استقلال المغرب (1956) تأسيس فرق هاوية في جميع أنحاء المغرب، حاول الاحترافيون التمركز في مدينتي الرباط والدار البيضاء بهدف خلق ممارسة مسرحية تقوم على قواعد فنية، وتخضع لتوجيه مؤطر انعكست نتائجه الإيجابية في إنجازات «الفرقة الوطنية (فرقة التمثيل المغربي سابقا) ثم فرقة «المعمورة» اللتين ساهمتا إلى حدود نهاية الستينات في تصعيد مسار الحركة المسرحية من خلال تقديم روائع المسرح الغربي [فولبون للكاتب (بن جنسون) - طرتوف - المثـري النبيل (موليير) - هاملت - عطيل (شكسبير)، إلخ]، إلى جانب إنتاجات مغربية كان أغلبها من تأليف أو اقتباس الفنان أحمد الطيب العلج.
وهكذا، عرف المسرح المغربي طريقه إلى الوجود الفعلي رغم ما كانت تعترضه من مشاكل هيكلية ارتبطت على الخصوص بتوجهات الدولة على الصعيد الثقافي. لكن حماس العاملين أمثال الصديقي والعلج، وعبد الصمد دينية، ومحمد عفيفي، وفريد بنمبارك وغيرهم كان من العوامل الأساسية التي أدت إلى خلق إمكانيات جديدة في مجال الإخراج، والتمثيل، والكتابة الدرامية بشقيها (التأليف والاقتباس). وبالتالي، فقد أمكن للمسرح المغربي أن يحقق ازدهارا كبيرا في مسيرته الاحترافية التي كانت تنتكس أحيانا بحكم ارتباطها بالسلطة البيروقراطية، كما كانت تنحرف عن أصالتها نظرا لحضور ممارسات تجارية/بوليفارية انطلقت مع فرقة «البساتين» بمسرحيتها «درهم الحلال»، ثم استمرت مع فرق أخرى لا يمكن ملاحقة أعمالها في هذه الدراسة.
ومع ذلك، نستطيع الإشارة إلى أنها حققت تراكما طفيليا على صعيد الإنتاج المسرحي الذي كان يتسم بالميوعة والتسطيح في معالجة المشاكل الجوهرية التي تحولت في الغالب إلى مجرد قضايا متعلقة بالزواج، والطلاق، والصراعات العائلية الهامشية، ومشكل الهجرة إلى الخارج (بنت الخراز - الزوجة المثقفة - سعدك يامسعود - لهبال في الكشينا، إلخ).
على أنه في موازاة هذه الحركة التجارية، عرف المسرح المغربي بعض المبادرات الإيجابية التي تجسدت في إسهامات المسرح الجامعي أولا (نزهة لفرناندو أرابال - بنادق الأم كرار لبرشت)، ثم ترسخت ثانية في أعمال عبد القادر البدوي الذي أنتج - ولا يزال ينتج - العديد من المسرحيات التي تعالج مشاكل المجتمع وقضايا البيروقراطية والانتهازية والوصولية (غيثة - صالحة أو دار الكرم - المعلم زعبول - في انتظار القطار - القاعدة والاستثناء - وليدات الزنقة، إلخ.) وذلك بأبسط الصياغات المسرحية المتقيدة بالأسلوب الإيطالي.
في نفس الاتجاه، يمكن الحديث أيضا عن مسرح الهواة الذي ساهم - رغم وسائله المحدودة - في عملية تطوير الحركة المسرحية وذلك بالعمل المتواصل، ومحاولة بلورة اتجاهات وتيارات في مجال الإبداع الدرامي. ويكفي للتأكيد على حيوية هذا المسرح ودوره الفعال، التذكير ببعض أعلامه الأوائل أمثال محمد العلوي، مصطفى التومي، الزناكي مصطفى، عبد العظيم الشناوي، عبد الهادي بوزوبع، علال الخياري، محمد المنوني، زكي الهواري، محمد تيمد، محمد الكغاط، كريم بناني، عزيز الزيادي، محمد شهرمان، عبد السلام الحبيب، وغيرهم ممن لفتوا الأنظار بأعمالهم المسرحية نظرا لما كانت تعالجه من قضايا فكرية جادة وما توظفه من أساليب طلائعية وأشكال تراثية تتوخى التجديد: الشئ الذي جعل مسرح الهواة، منذ بداية الاستقلال، يشع كبؤرة عطاء مسرحي حقيقي ومختبر تلتقي فيه الطاقات والمواهب لتناقش أوضاع المسرح المغربي وآفاقه المستقبلية.